بين الإرادة الفردية، وحتمية القدر! / دداه الهادي

اثنين, 09/23/2024 - 04:55

ليس في القدر مكان لشيء اسمه العبث، إلاّ أن العبث نفسه مخلوقُُ، ولحكمة بالغة!!
قرأ الكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ كثيراً عن تاريخ مصر القديمة، وكتب قصته عن بناء الهرم الأكبر “هرم الملك خوفو”، فكان العنوان المثير للجدل دينيا “عبثُ الأقدار” هو غلاف الحكاية برمتها، وكان لي شرف قراءتها فيما بعد الألفين، حيث قضيت الصيف في مدينتي أطار منكباً على روايات الكاتب نجيب محفوظ.
تتحدث القصة، وكانت قبل الإسلام، بل قبل المسيحية، وقبل التوراة عن مولد طفل، سيكون ملكا لمصر الفرعونية، وقد رأى أحد الكهنة ذلك الحدث، فأخبر الفرعون “خوفو”، الذي كان منهمكا في بناء منزل الخلود خاصته، الذي هو الهرم الأكبر في وادي الملوك بمنطقة سقاره، فقرر الملك التنقل للقضاء على الفتنة في المهد، ولا فتنة أكبر عند خوفو وأمثاله مما يهدد وجودهم في السلطة، فانطلق، وتشابكت الأحداث، وتشابهت، فقتل طفلا آخر، وهو عائد في الطريق وجد جنده أماّ وطفلها في عربة مصرية قديمة، فحملوهما إلى حيث يوجد عمال الهرم، وهناك تزوجت، وعاشت حياتها بسعادة، وكبر ابنها، ودخل الجيش الفرعوني، وصار يعمل في حراسة الملك خوفو المُعظم عند قدماء المصريين آنذاك.
شاءت الأقدار أن تعرف الفتى على ابنة الملك، من خلال رسوم لأحد إخوته، كان يرسمها بدقة متناهية، وسعى لرؤيتها على ضفة النهر، إذ تحضر في موكب مهيب، وكان اعتقاده في البداية أنها إحدى بنات مصر الجميلات، من بنات الأسر الكبيرة، جمالها مدهش أخاذ، وهذا ما سلب قلبه، لكن القصة كانت أكبر من ذلك بكثير، فالفتاة ابنة ملك، تدخل حكايته الخالدة الألفية الثامنة بعد حين، وتشد المواكب، والمراكب، والجحافل، والمحافل لرؤية آثاره الباقية إلى اليوم.

وفي ذروة مجد خوفو، وعلى مقربة من نهاية تسليم الهرم الأكبر فوجئ الملك بانقلاب دام على سلطته، ومقامه العالي، كان في حقيقته محاولة اغتيال مدبرة، ومحكمة بقوة، استبسل أصحابها، وخاصة قائدهم في محاولة قتل الملك، لكنهم واجهوا شراسة وبسالة حراسه، بقيادة الشاب-الطفل “ددف رع”، الذي اعتقد خوفو منذ سنوات أنه قضى عليه.
انتهت محاولة الانقلاب الفاشلة، وكان الملك قد أصيب فيها، ولكنه لم يمت، ثم جاءت الطعنة القاتلة، والخبر الصاعق، الذي صدم الملك خوفو، نعم، فلقد كان قائد المحاولة الفاشلة ابنه، فلذة كبده، الذي مات في محاولته الاستيلاء على السلطة، وهنا قرر أن يضع السلطة في مكان آخر، لا يخرجها من نسله، ويقطع الطريق على التعطش المخيف للسلطة، لكي لا يزيد فتيل الصراع بين أبنائه، ومحيطه الاجتماعي، ويكرم الشاب الذي دافع عنه، فقرر تحت هول الصدمة أن يزوج الشاب المدافع عنه من ابنته، وأن يجعله ملك مصر.
وفي هذه اللحظة يدخل عليه كبير البنائين المهندس ميرابو -زوج والدة الطفل، ووالد إخوته- ليقول له: هذا الشاب ليس ابني، وضميري يلزمني أيها الملك أن أخبرك بذلك، وأن أقول لك: إنه طفل الكاهن فلان، الذي تنبأ الكهنة أنه سيخلفك في السلطة، وتنقلت يوما لتقضي عليه، وهنا قال الملك خوفو، حتى ولو كان، فهذه مشيئة الأقدار، سيكون زوج ابنتي الأميرة مري سنخ رع، وسيحكم مصر!!!
أثير لغط كثير حول القصة، وصدرت مؤخرا تحت عنوان: “عجائب الأقدار”، ونجيب كان اختار لها بدايةً “حكمة الأقدار”، لكن الناشر انتقد العنوان!
زيارة هرم خوفو أعادت القصة لذاكرتي، وأنا أرى الهرم الأكبر أمامي، ولم أر في كل ما أرى هنالك في وادي الملوك إلاّ قدرة الله، ومشيئته، وحكمته البالغة، إذ بقي الهرم للموعظة، والاعتبار، وليعيّ أولو الألباب أن لا مانع لعطاء الله، ولو كتب لامرئٍ رزقاً، فلن تمنعه الملوك، ولا غيرهم، بل قد يأتيه متكاملاً، مع سكر زيادةً، إذ الطفل حمله جند الملك في رحلة كان يفترض أنها لقتله إلى حيث يتم إعداده للملك، وهنالك رأى حبّ حياته، وهنالك تولى عرش مصر، ووضع على رأسه الصولجان، وكانت ابنة الملك زوجه المصون/ زوجته بالنسبة للُّغويين الجدد.
هذه القصة تتشابه أحداثها، وتتداخل، بشيء من التناص مع قصة نبي الله موسى عليه السلام، الذي حدثنا القرءان الكريم عنه، وقدّم لنا المفسرون على اختلافهم الكثير عن تفاصيلها، إذ يرى فرعون/ رمسيس الثاني حسب بعض الروايات نارا عظيمة تشتعل في بيت المقدس، وتأتي إلى مصر، فيصحو مفزوعاً، ويجمع الكهنة، وتنتهي تعابيرهم إلى أنه طفل سيولد هنالك، وسيهدد حكمه، بحسب الرواية المهذبة لأحدهم، وهنا يبدأ حماية ملكه بقتل الأطفال الذكور، إلى أن يأتيه ذلك التابوت، وينشأ نبي الله موسى في البيت الفرعوني، والقصة معروفة عندكم!!!
إذاً لا ينجي حذر من قدر، ولا يتحكم أحد من البشر في التمكين للناس، إذ الأقدار بيد الله، نسأله أن يمكن لنا في الأرض بالخير، وأن يرزقنا خالص الإيمان، وأن لا يشفي فينا عدوا، ولا حاسدا.
وتعبت من المشي في ميدان التحرير، حيث زرت المتحف المصري منذ 4 سنوات تقريباً، وكانت المومياوات مصطفةً فيه، يتقدمها رمسيس الثاني، بأنفه الكبير، وملامح وجهه الملكية البارزة، فقلت لرفيقي أحمد خطري الجكني، سنبحث عن استراحة قريبة، نأخذ قهوةً، وكانت القهوة بالصدفة “زهرة البستان: ملتقى الأدباء والفنانين”، حيث لهذه الحكاية أكثر من معنى، وحيث توجد صورة نجيب محفوظ، بابتسامته العريضة، إلى جانب صور من مشاهير الأدب والفن، والتقيت صدفةً بالمبدع علي عبد الحميد، فتبادلنا النقاش الثري حول الأدب والثقافة.
وقبل عهد موسى -ص- زمن آخر بمصر القديمة، حكمها الفرعون توت عنخ آمون، وذهب في صراع ما، فمات في معركة، تحت عربة الخيل، فتم تحنيط الجثة دون وجود القلب، لكن ضلالا آخر سيظهر، ويقام معبد آمون، ويأتي طفل صغير حسده إخوته، لحظوته بمحبة والده، وغيرة إخوته من ذلك، ليتربى غريب ديار، عند عظيم مصر، ثم يسجن، ويفسر رؤيا لأحدهم في السجن، بل لإثنين، وينساه الذي نجا منهما إلى حين، ثم يرى الملك رؤيا البقرات، فيبعث في المدائن، ويتذكر الناسي رفيقه في سجن/زاويرا، وتتشابك الأحداث، وفي نهايتها حين يسأل الوالد يعقوب النبي -ص- الإخوة عن يوسف، يقولون له: يوسف عظيم مصر!!!
لقد مكّنَ الله ليوسف في الأرض، رغم كيد إخوته، وجبروت كهنة المعبد/ معبد آمون، ولم يقف الجب/ البئر عائقا في طريقه إلى حيث التمكين بمشيئة الله له، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
ولقد كانت بدايات ذلك التمكين من رؤية يوسف، التي قصّ على والده، قال تعالى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).
وسيرمى في غور البئر، وتأخذه سيارة القوم، وينزل منزل عظيم مصر، وتحاك قصة زليخة، إلى رؤيا الملك، والرؤيا باب كبير، له مكانته في الشرع، حتى في نبوة محمد -ص- إذ أول ما بدأ به الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا وجاءت كفلق الصبح-كما في حديث عائشة، وتمكن العودة لها في كتاب محمد بن سيرين عنها، وكتاب عبد الغني النابلسي في نفس الموضوع.
آثار آمون عثر عليها مدفونة بعيدا بالصدفة، مغلقةً بإحكام، وكان آمون هذا من عجائب الصراع على السلطة، فهرمه تم تغيير نقوشه، وتم تحنيطه هو بمواد شبه رديئة، ليتعرض للاحتراق الذاتي، وتتفحم الموميا نوعا ما، وكل ذلك بسبب نائبه “آي”، الذي آثر تغيير معالم هرم آمون، ليكون هرمه هوّ، ودفن ملكه في هرم كان يعده هو لنفسه، ودون مكانة آمون في التاريخ المصري، لقد انقلب على الملك آمون بمجرد أن مات!!!
ضفاف مصر كلها موعظة وعبر، وحكايات ملوك وأمراء ورؤساء، بل قصص أنبياء، ورسل، نشأت على النهر الخصيب، وأسرت العالم بأسره.
ونحن عائدون التقينا أحدهم، وكان منكبا على كتاب الراحل أنور السادات “حديث عن الذات”، حيث ينتقد الراحل سلفه جمال عبد الناصر، في مشهد آخر لحكايات مصر القاسية، والجميلة، ذكرني بكتاب طيب الذكر محمد حسنين هيكل “خريف الغضب”، إذ عرض لكل ذلك بشيء من الحصافة، لولا أن تفندون.
للعلم كنت في مصر بدعوة كريمة من الاتحاد العربي للعمل التطوعي، الذي أتقدم بجزيل الشكر لرئيسه د يوسف الكاظم، ونائبه د هشام الريدة، وأخي الأستاذ عادل محمد محمود / ممثل الإتحاد في موريتانيا، وهي فرصة طيبة لأشكرهم، وأشيد بجهودهم المباركة، والطيبة.

بقية الصور :